الأربعاء، 31 يوليو 2013

زوج بني - قصة الثلاثاء المرعب الثالثة عشرة



نحو سماء العاصمة المكفهرة، تتصاعد الصلوات والأدعية، فتشتبك مع اللعنات النازلة.

وعلى رأس شارع جانبي، يلقي ملمع الأحذية العجوز بفرشه وأدواته، تنتفخ أوداجه، يشير بإصبعه إلى الزبون الذي انسل هاربًا، ويقول بصوته الجهوري من بين شفتيه الغليظتين ولعابه المتناثر:
"زوج بني... زوج بني.... زوج بني...."

ثم يتصاعد أدائه تصاعدًا دراميًا:
"زوج بني.... زوج بني...... زوج بني."

حتى يسقط رأسه منكفئًا فوق صندوقه.
~


من بعيد، يخطو عباس يتعثر في طريقه لعمله، ينظر إلى ملمع الأحذية العجوز الملقى على قارعة الطريق منكفئ الوجه فوق الصندوق، هو ليس من طبعه أن يلمّع حذائه، ينظر إلى حذائه الذي يصعب تمييز لونه من تراكم ذرات التراب فوقه، ولكنه سيفعل من أجل مساعدة ذاك المسكين.

يرفع قدمه اليسرى فوق الصندوق ويربت بيده فوق كتف العجوز:
-               يا عمّ!

يرفع ذاك وجهه بوهن، ويمسح غمصًا عن عينه وزبدًا عن فمه، ثم يبدأ في التقاط أدواته.. يلمح عباس قدرًا من الطيبة في قسمات العجوز بينما ينفض ذرات التراب بفرشاة مخصوصة، يدير خرقة ذهابًا وإيابًا على أطراف الحذاء باحتراف، ويمعن في تلميع الحذاء بالورنيش مرة بعد مرة.. يضيّق عباس عينيه لتفادي الشمس المُسلَّطة، ويمسح حبات العرق عن جبينه بطرف كمه، فيما لا يزال العجوز مثابرًا على التلميع، ينظر إلى ساعته ثم يبدل قدمه اليمنى باليسرى قائلاً:
-               يكفي هذا، لتعمل على الأخرى.

يرفع العجوز وجهه إلى عباس فيما تتبدل قسماته الطيبة إلى سحنة شيطانية:
-               ما هذا يا أفندي! هل رأيتني أنهيت عملي؟ ألا تبدي الاحترام لرجل يؤدي عمله؟

يرتج عباس في مكانه إثر نظرة العجوز النارية، يجد أنه يبتلع كلماته إذ ينطقها:
-               ولكن .. ليس قلة احترام .. فقط .. سأتأخر على عملي..

يعاجله بنظرة آمرة، وبنبرة تتعالى:
-               وأنا أقول لك أعد قدمك اليسرى ولا تنزلها حتى يعود حذاؤك جديدًا.
-               حسنًا، حسنًا..

يجد نفسه منساقًا إلى أوامر العجوز في سلاسة يجهل سببها.. يجد أنه مشدوهًا إلى عالمه الخشن، يمكنه الآن أن يلحظ عروق كفه البارزة، يمكنه أن يحصي التجاعيد أسفل عينيه وأعلى جبينه، يمكنه أن يصغي لصوت تنفسه الثقيل بينما يعمل، كما يمكنه أن يتحاشى أية نظرة جديدة له.

وأخيرًا، يرجع العجوز بظهره للوراء، يضرب على صندوقه بظهر فرشاته، ويشير إلى ساقه الأخرى من دون أن يرفع نظره إليه.. ينزل عباس ساقه اليسرى، فيما يرفع الأخرى بتردد، فيقبض عليها العجوز، ويعكف على متابعة عمله.

يذهب عباس بخياله بعيدًا، يفكّر في أستاذ متولي الذي سيلحظ تأخره، يفكر في مدام ناريمان التي ستحاول أن تنقذه وتوّقع له في دفتر الحضور، ثم يعود بتفكيره إلى أستاذ متولي الذي سيبحث وراءه ويعلن أنه يغش في الدفتر، وبالنهاية يفكر في نصف اليوم المخصوم... وبالرغم من هذا كله، فإنه يتوق لأن يرى نظرة الغيرة على وجه أستاذ متولي حين يلمح لمعان حذائه، ستطفيء هذه النظرة ناره، وتشعره بالرضا.

وذلك حين صعدت ضحكة مجلجلة نحو عنان سماء العاصمة، ارتجف لها بدنه كله، ثم انحنى بعينه يبصر العجوز الذي بدت ضروسه المسوسة، من بين أسنانه النخرة، سأل في رهبة:
-               ماذا! ماذا هنالك!

انتهى العجوز من ضحكته، ثم سعل في سعادة وعاد يتابع عمله:
-               لا شيء ذو بال! إنه زوج بني آخر قد أدى مهمته.
-               زوج ماذا؟ ما معنى هذا!

لم يجب العجوز، واكتفى بأن منح حذاءه وجهًا آخر من الورنيش، ثم أبعد يديه وأعلن:
-               تمام يا أفندي! ها قد عاد حذاءك جديدًا

أنزل عباس قدمه إلى جانب الأخرى، ثم نظر في ابتهاج إلى زوج الأحذية البرّاق الذي أصبح له، والذي للمرة الأولى يتضح لونه: إنه أسود حالك برّاق إذا ما انعكس عليه الضوء.. إنه يشعر بالفخر أنه يرتديه، ولربما يشعر بالندم أن تأخر كل هذا الوقت في تلميعه، وعلى الفور أدخل يده في جيبه ومنح العجوز قطعة معدنية، وهمّ يغادر حين استوقفه نداء العجوز الهادئ:
-               يا أفندي!
-               نعم
-               ما هذا؟
-               جنيه
-               وهل هذا ما أستحقه؟

فكر عباس للحظة، لربما فكر في القيمة المستحقة، ولربما في هدوء العجوز الذي سينقلب عاصفة إذا ما أغضبه، وضع يده في جيبه بحثًا عن عملة أخرى، فتش جيوبه جيّدًا، فلم يجد إلاّ ورقة صحيحة.. تلعثم لحظة، ثم لجأ إلى تطييب خاطره:
-               اكتفي بالجنيه، واعذرني، لا أملك فكّة.

بادره العجوز بخشونة:
-               وهل أشحذ منك لتقول لي "لا أملك فكّة"؟

تلك الوقاحة التي أثارت غضب عباس، فهتف منفعلاً:
-               وهل تتوقع أن أمنحك ورقة صحيحة؟ لمـــاذا!!؟ هل اخترعت حذاءً جديدًا! هل أتيت بمعجزة من السماء! أنت بالكاد لمّعت الحذاء!

اتسعت عينا العجوز، وحدجه بنظرة صائبة فيما يضغط على مقاطع كلماته:
-               ألم أخبرك سابقًا | ألاّ تقلل | من شأن رجل | يؤدي عمله!؟

أصابت النظرة تماسك عباس، فحاول أن يلقي بها خلف ظهره ويتقدم، ومن خلف ظهره راحت تشيّعه لعنات العجوز الذي احمر وجهه وانتفخت أوداجه وراح يردد:
"زوج بني... زوج بني.... زوج بني...."

كان عباس يشعر بأنه لاعب سيرك فوق الحبل، يبذل جهده كي لا يقع ويضحك الناس عليه في أول عروضه، ثم يخصم له صاحب السيرك نصف يوم. ولازالت تطاله من خلف ظهره عبارة العجوز المبهمة:
"زوج بني.... زوج بني...... زوج بني."

وما جدوى الزوج البني! إنه نوع من الكماليات ليست لأمثاله، قد يليق بـ بك ربما يملك الكثير من البذلات البنية والبيج وما بينهما، والتي إن ارتدى عليها زوج أحذية أسود ستوّبخه زوجته وتخبره أنه لا يفهم في الذوق ولا يليق بها أن تظهر جواره في المجتمعات الراقية.

أمّا هو، فإنه لا يذكر أنه ارتدى في حياته زوجًا بنيّا، فضلاً عن بذلة تليق بالزوج البني!

وإلى جوار رأسه، تروّعه قذيفة مصوّبة غير أنها ـ لحسن الحظ ـ أخطأته، ينظر إلى فردة الحذاء البنية التي استقرت على الأرض أمامه، ثم يستدير ينظر خلفه في استفهام، فيطالع العجوز على البعد وقد نظر تجاهه وأعلى من صوته ـ المرتفع من دون حاجة:
-               هذه كانت تهويشة، وانتظر اللحظة الفاصلة.

لا يريد أن يصبح سخرية، استدار وأكمل طريقه. لاعب السيرك يتأرجح، كما أن الحبل ينقطع، ونصف اليوم المخصوم سيصبح يومًا كاملاً حين يستدير ويعود للبيت. أما الأكثر سوءً، فإنه لن يرى نظرة الغيرة بعين الأستاذ متولي من لمعان حذائه.
~

لا يريد أن يبدو كأضحوكة، توقف ونظر إلى حذائه، لاعب السيرك لا يمكنه أن يسير على الحبل بزوج من الأحذية حتى وإن كانت سوداء وللتو أصبحت لامعة، يلمح مئذنة على البعد عالية عالية، يدب الأمان في قلبه فجأة، يخف إلى المسجد في سرعة، يخلع نعليه على الباب، ويدلف خفيفًا إلى الداخل.

ينتبذ مكانًا قصيًا قد يظنه كثير من المصلين خلوة، يشرد في خواطره عن حاله فيما يظنه البعض تفكّر، وتسقط من عينه دمعة يظنها أحدهم خشوعًا.

يهز رأسه يمينًا ويسارًا وما عاد هناك من أحد لكي يظنه تصوّف، ينتبه للمرة الأولى إلى خلو المسجد بالكامل من المصلين، لا يدري كم مكث على هذا الحال، ولكن يبدو أنه أطال.

يشعر بأنه أصبح أفضل وقد هدأ روعه وتماسكت أعصابه، يحس بحنين إلى التواجد في كنف زوجته وبيته، يخف دون تلكع إلى الخارج، لم يكن يرغب حقًا في أي شيء يعطله عن تحقيق رغبته، ولكن: أين ذهب ذاك الحذاء؟

يتفقد الأرفف بيديه بالرغم من أنها أمام ناظريه خالية، لا يوجد أثر لحذاء أسود لامع.. هاهاها.. تتملكه روح الدعابة فيقهقه في حرمة المسجد: هل طمع أحدهم في حذائه في أول يوم يبدو فيه كحذاء عليه القيمة! لقد كان من الحكمة أن يتركه بترابه.

يتوقف الضحك فجأة، يلمح في الزاوية البعيدة لأدنى رف من الأرفف.. حذاء يشبه تمامًا حذائه، في هيئته ولمعانه وحتى مواضع ثنياته، فقط يختلف في تفصيلة صغيرة، فلونه هو اللون البني.

يرفع زوج الأحذية بإصبعيه إلى أعلى رأسه، وينظر من أسفلهما إلى المقاس المطبوع. يسقطهما إلى الأرض التي ترتعش فوقها أصابع قدميه في الجورب، يدير نظره حوله في حذر، ثم يدس قدميه في الحذاء ويخرج من المسجد.
~

خطواته الرتيبة يصبح لها إيقاعًا كإيقاع الساعة:
تيك تاك
تيك تاك
تيك تاك

خطوة بعد خطوة يتحول الإيقاع إلى نغمات ممطوطة:
تيييييك تااااااااك
تيييييك تااااااااك
تيييييك تااااااااك

يندهش عباس، يتوقف، ثم تعلو شفتيه الابتسامة إذ يدرك أن كل ما في الأمر أن لحذائه صليلاً، يعاود الخطو، فيعود صليل حذائه ممطوطًا، يسكن، فيسكن، فيتابع سيره مطمئنًا.

يتوقف من جديد، وقد علا وجهه الذعر إذ يفكر: ولكن صوت الصليل ـ الذي يعلو مع خطواته ويتوقف بوقوفه ـ لا يأتيه من أسفل قدميه، وإنما من خلفه.

يستدير في فزع، لا أحد بالخلف. يعاود السير، يعود الصليل. يسرع في السير، يتعالى الصليل. يقف فجأة، فينمحي كل الصوت.

"هذا المخبر.." يردد في نفسه: "بارع حقًا، إنه يختفي بأسرع من قدرتي على الالتفات. فقط، فقط، لو لم يكن لحذائه صليلاً!!"

ونحو الموقف، يكمل طريقه ركضًا، برغم ارتفاع ضجيج الحذاء.

وحين يصل، يسرع بالانغماس وسط العامة، ويلتقط أنفاسه، فتهوي يدًا ثقيلة على كتفه. يلوي عنقه إلى الخلف في سرعة، فيبادره رجل يفوقه في الجسم بسطة:
-               لماذا تهرب مني؟
-               وهل كنت تتبعني؟

يخطو الرجل الضخم خطوات قليلة ليقف في مواجهته، ولكنها كافية جدًا ليسمع صليل حذائه، ويقول:
-               بكل تأكيد.
-               وماذا تريد مني؟

يشير إلى قدميه ويقول:
-               أريد حذائي.

يشعر عباس بالحرارة ترتفع إلى رأسه، ربما غضبًا، ربما خوفًا، ربما حرجًا.. ينظر إلى الزوج البني بقدمه ويقول:
-               أنا... أنا.... أنا كنت في المسجد، ولم أجد...

يسكته الرجل بإشارة من يده:
-               لا أريد أن أستمع لتاريخ حياتك، اعطني الحذاء.
-               حسنًا، حسنًا...

ينحني عباس ويعكف على خلع الحذاء، وذلك حين يزوره الخاطر، فيرسل بصره ـ من زاوية نظره بالأسفل ـ إلى موضع قدمي الرجل الضخم اللتان تستقران داخل حذاء أسود لامع هو حذائه بالذات.

يعود ببصره إلى موضعه، يتابع خلع الحذاء كألم يرَ شيئًا، وقد اتخذ قراره أنه لن يطالب بشيء، ولن يسأل حتى عن شيء، وسيعود إلى منزله حافيًا، إذا تطلب الأمر.

يتجاهل الأعين المبحلقة من حوله، لقد اكتسب جمهورًا في هذا اليوم لم يكتسبه لاعب سيرك محترف في عمره، يضع زوج الأحذية البني أمام الرجل الضخم، ويتراجع خطوة للوراء.

يحدجه الرجل الضخم بنظرة قاسية حبست أنفاسه في صدره، وفي لفتة أذهلته، مال الرجل الضخم وخلع نعليه، ثم رفعهما أمام وجه عباس قائلاً:
-               هاك حذاءك، قد ارتديته بالخطأ.

التقط عباس الحذاء إلى صدره، وتنفس الصعداء من بين شفاهه المبتسمة، راح الرجل الضخم يرتدي الحذاء، فيما أصيب المشاهدين بخيبة أمل، وابتدأوا في التفرق.

ولكنه وقبل أن يغادر، التفت الرجل الضخم ومد يده إلى كتف عباس قائلاً:
-               هذه كانت تهويشة، وانتظر اللحظة الفاصلة.

يقولون أن المجهول مرعب، ولكن المألوف أحيانًا يرعب أكثر، ووقع هذه العبارة كان مألوفًا بأذن عباس الذي راح يرتجف:
-               ماذا؟

بدت الدهشة على وجه الرجل الذي وقف في بلاهة:
-               لا أدري ما قد قلت، ولكن شيئًا جبريًا أخبرني أن أخبرك.

ثم هز رأسه، وشق طريقه بخطوة واسعة.
~


صعد عباس الدَرَج ثم ارتكن إلى حوافه يلهث. أدار المفتاح في الباب فانفتح عن منزله الحبيب المقلوب رأسًا على عقب للتنظيف ولكنه قد رآه في هذه اللحظة بعينيه المغرورقتين: أروع مكان في الوجود. أطلق زفيرًا طويلاً ثم خطا إلى الداخل في حبور.

لم يمس حذاؤه اللامع الأرض وإنما تزحلق من فوقها في ماء المسح فارتطم بثقل جسده بالأرض حتى همد. وفي لحظة سقوطه، أُلقي نائمًا على ظهره، متألمًا من كل عضلة، ومحدثًا جلبة جذبت انتباه ابنته الكبرى التي حضرت على الفور بالممسحة في يدها،  وما إن رأت والدها فوق الأرض حتى شهقت شهيقًا عاليًا، ثم استغرقت في الضحك قائلة:
-               هذه كانت تهويشة، وانتظر اللحظة الفاصلة.

رفع رأسه على الفور وهتف ذاهلاً:
-               ما الذي تقولين؟

سكن ضحكها فجأة، علا الارتباك وجهها، مدت يدها إلى أبيها تقيمه قائلة:
-               لستُ أدري، ولستُ أعرف حتى معنى هذا!

وحضرت ابنته الصغرى ركضًا، فانحنت فوقه تفتش في جيبه عن حلواها المعتادة:
-               أين الشيكولاتة يا بابا! أين الشيكولاته يا بابا!

لكنها إلى هذا الحد كانت قد نالتها بالفعل، فانتزعتها وراحت تركض للداخل، تتبعها عبارة أبيها:
-               اقتسميها مع إخوتك.

ثم قام ينفض ملابسه المبتلة، وكأنما قد تجف، وتحدث لابنته الكبرى بصوت يخنقه تعكر المزاج:
-               أين أمك؟
-               إنها بالداخل.

وأشارت إلى غرفة النوم، فخطا تجاهها فيما يشير إليها بطرف إصبعه:
-               اعملي لي فنجانًا من القهوة.

وكأن شيئًا بالكون يمكنه أن يضبط مزاجه من جديد!
~

يفتح باب غرفة النوم فيجد زوجته في ثوب نومها المثني ذيله لينعقد على خاصرتها، وبيدها ممسحة، وإلى جانبها دلو. وبالرغم من هذا، هي التي تصيبها الدهشة لرؤيته:
-               أجئت يا عباس؟

عينه زائغة، ولبُّه شاردًا:
-               هاه!؟
-               أقول لك: أجئت يا عباس؟
-               نعم، نعم..

يكاد يخطو داخل الغرفة فتصدّه بذراعها الممدودة:
-               لا، هذه الغرفة قيد التنظيف
-               وأين أرتح إذًا؟
-               ولماذا جئت مبكرًا؟

ينفض يديه في وهن، ويستدير وكأنما بالحركة البطيئة ليمنحها ظهره ويغادر، تدور عينه الزائغة مع استدارته في الغرفة، تقع على بضعة أشياء ليس من المعتاد رؤيتها في غرفة النوم، ولكنه رآها في هذه المرة الاستثنائية: فرشاة بلاط، خرقة مبلولة، وبأسفل الستارة، كان هناك زوجًا من الأحذية من اللون البني.

يخطو في خطوات قصيرة، وثقيلة، وبطيئة وكأنما بقدمين مصمغتين إلى الأرض، يقع بصرها على آثار حذائه، ومن خلف ظهره، يأتيه صوتها موبخًّا:
-               أيعجبك هذا الطين؟ ألم أخبرك ألف مرة أن الأحذية كلها عند الباب؟

لا يعيرها اهتمامًا، ويتابع تقدمه المريع في بطئه، ترفع عينها عن الأرض فتقع على ظهره المبتل، مما يستلزم المزيد من اللوم:
-               وما هذا البلل في ملابسك! أطفل صغير أنت؟

ثم يعود قلبها إلى طيبته:
-               انتظر!

تغيب لحظة، ثم تعود حاملة بيجاما نظيفة، وتقول بحنان قبل أن تغلق الباب:
-               ارتدي هذه، وارتح في غرفة الأولاد، فقد انتهيت من تنظيفها.

يتلقاها في صدره، ويتابع التقدم من دون كلمة.

-               القهوة يا بابا.

يزيحها عن طريقه، ويتابع التقدم من دون وعي.
~

صورة واحدة معلّقة على جدار غرفة الأولاد، تتنقل من جدار لجدار بحسب ما تقع عليه عين عباس، وهي صورة الحذاء البني أسفل ستارة غرفة النوم.

استلقى على الفراش فانتقلت الصورة إلى السقف.

ابنه إلى جواره نائم، ولكنه راغب في اللعب، وذهنه يتفتق عن آلاف الألعاب الممكنة لو أن ابنه متيقظ، يمكنهما أن يجمعا قطع البازل، يمكنهما أن يحلا الكلمات المتقاطعة، ويمكنهما أن يضعا كلمات "حذاء"، "ستارة"، و"غرفة نوم" في جملة مفيدة.

هذه الجملة يمكن أن تكون:
"ثمة حذاءً بني يقبع بأسفل ستارة غرفة نوم رجل لم يملك يومًا حذاءً بنيًا"

أو، لنختصرها قليلاً:
"ثمة حذاءً لا يخصه يظهر ـ بالخطأ ـ من أسفل ستارة غرفة النوم"

أو، لنكن واضحين:
"هناك حذاء لرجل غريب في غرفة نومه والستارة تخفي صاحب الحذاء."

لماذا اندهشت زوجته حين رأته، وعنفته لرجوعه المبكر؟
لماذا منعته من دخول الغرفة، وأوصدتها خلفه؟
ماذا تفعل زوجته شبه العارية في غرفة نوم مع رجل غريب؟

انتفض كالثور وانطلق إلى غرفة النوم فكأنما قطع المسافة في خطوتين، فتح الباب بخبطة واحدة فانتفضت زوجته المنكّبة على الأرض:
-               ما هنالك!

يوجّه بصره نحو موضع الحذاء الذي قد كان شاهده لكنه لا يجده في موضعه:
-               أين هو؟
-               ما هو؟

يندفع نحو الستائر يزيحها في عشوائية ويتفقد ما خلفها:
-               أقول لكِ أين هو! أين هو!

تقول في لوعة:
-               فقط اهدأ واخبرني عمّ تبحث!
-               آه!

يطلقها في ظفر، تستقر عينه على فردة حذاء بنية معلّقة بحافة الشباك من خلف الستائر، يلتقطها ويرفعها أمام وجهها:
-               هل هرّبته! هاه! هل قفز من الشباك؟

تصعقها العبارة:
-               ماذا تقول! هل جننت؟

يهوي بكفه فوق خدّها بكل الغل فتسقط أرضًا:
-               أيتها الفاجرة!

يندفع أولاده من باب الغرفة في جزع:
-               بابا، بابا

يدفع بهم إلى الخارج صارخًا:
-               لا تقولوا "بابا"، وابحثوا عن أبيكم بعيدًا عني!

ويوصد من خلفهم الباب، ويستدير إليها في توعد، تتراجع في موضعها على الأرض فيما تنتحب وتردد:
-               لقد جننت، لقد جننت، لقد ذهب عقلك!

يرفعها من شعرها إلى الأعلى، فيما يلوّح بفردة الحذاء أمام وجهها:
-               أنا جننت؟ وما هذا أيتها العاقلة الوفيّة؟
-               هذا حذاؤك، حذاؤك.

يتوقف عن الاستيعاب لحظة، وبأذنه نداءات الأولاد من خلف الباب:
"بابا، بابا"

ثم يعود إلى عزمه:
-               أنتِ كاذبة، أنا لا أملك حذاءً بنيًا.
-               هذا حذاؤك، أقسم لك، لقد اشتريته لك منذ أعوام، هل نسيت؟ ولكنك لم تستخدمه وظل مركونًا
-               ولو كان حذائي فماذا يفعل هنا، أليست الأحذية كلها عند الباب؟
-               صادفته في عملية التنظيف، وأردته أن يكون قريبًا لأتذكره فأخرجه لشخص يستفيد منه ما دامت لا تستعمله
-               ولماذا أنكرتِ وجوده حين سألتك، وماذا كانت تفعل فردة واحدة منه على الشباك؟
-               لم أكن أعرف أنك تبحث عنه، وقد رفعته على الشباك لأتمكن من التنظيف أسفل منه، ويبدو أن إحدى الفردتين قد سقطت من الشباك

يهوي إلى المقعد فيما ينفي برأسه مرارًا:
-               هذا حذاء غالٍ ونعله متين!
-               وهل أشري لك هدية رخيصة؟
-               عظيم!

يهب ثائرًا فيدفع بزوجته فوق مقعد:
-               كلماتك معسولة، وردودك حاضرة، ولكن شيء واحد سيثبت صدق روايتك.
-               وما هو؟

يتناول فردة الحذاء، ويجلس فوق المقعد المواجه لها:
-               لو كان هذا حذائي، فسيناسب قدمي، وتكونين زوجة مخلصة..

يحاول أن يدفع بقدمه داخل الحذاء أكثر من مرة:
-               ولو لم يكن، فلا تسأليني عن مصير الزوجة الخائنة.

تهز برأسها وتقول بصوتها المختنق:
-               ولكن لو كان ناسبك يوم جاء، لما كان مركونًا حتى اليوم.

وإلى أذنه لازالت تتوالى نداءات الأولاد:
"بابا، بابا"

تنزلق قدمه إلى الخارج ولا يسعها الحذاء في أية مرة، يلقي بالحذاء، ويهب يقبض على عنقها:
-               أنا لستُ غبيًا أيتها العاهرة، فلا تزيدي من الكذب، واخبريني حذاء من هذا!

يشدد قبضته على عنقها فيما تحاول أن تدفع يديه أو تتنفس :
-               قولي حذاء من، ولا تفكري بأن تكذبي ثانيةً بعد ثلاثين سنة من الكذب هي طيلة عشرتي معك. ثلاثين سنة أفي لكِ وتخونين! ثلاثين سنة أتحمل الإذلال من أصحاب العمل والسكن والسادة، أصحاب الفخامة والسيادة والسعادة، الرؤساء المتسلطين والزملاء الواشين والباعة الجشعين، وكل من يخطر له أن يهينني حتى لم أعد أعتبر إهانتهم لي إهانة، ولربما جزء من متطلبات الوظيفة، وذلك من أجل ألا تنقصكِ حاجة أنتِ ولا الأولاد! كنت أعود فأقول إن لي بيتًا أنا ربُّه وزوجة تهتم لأمري وأولاد هم قرة عيني، وهم يحترمونني ولا يرونني ذليلاً..

تتعالى الطرقات على الباب مصحوبة بالنداء يقطّع قلبه:
"بابا، بابا"

يلتفت إلى الباب يصرخ:
-               قلتُ لكم: أنا لستُ أباكم، لستُ أباكم.

تتراخى قبضته قليلاً:
-               أنا لستُ أباكم الذي تحمل أن يكون أضحوكة لكل الناس في طريقه كي لا يسخر أحد في يوم منكم.
لستُ أباكم الذي حرم نفسه حتى من حذاء جديد، كي ترتدوا أنتم الملابس الجديدة كل عيد.
لستُ أباكم الذي قبل أن يكون لاعب سيرك يسقط ويندك عنقه وتبقم أنتم في مكان أمين.
أنا لستُ أباكم يا أولادي.

تتراخى قبضته تمامًا، وتتساقط الدموع من عينه:
-               لستُ أباكم، لستُ أباكم!

تهب زوجته تدفعه بكل طاقتها إلى بعيد، يسقط فتصطدم رأسه بعارض الخزانة، تدور رأسه ويتثاقل إلى الأرض، تسرع زوجته بتثبيته إلى الأرض، وبدافع عميق من الإحساس بالظلم، ترفع فردة الحذاء البنية وتهوي بها فوق رأسه:
-               لست أباهم أيها المريض النفسي؟
ليس حذاءك أيها المختل العقلي؟

ترفع الحذاء إلى أعلى وتكرر ضربه على وجهه مرات عديدة:
فتلقى حذاءك وانظر إليه جيدًا لربما توقن أنه حذاءك وأنني كنت أشرف زوجة طيلة ثلاثين سنة!
ثلاثون سنة من الأعمال الشاقة في خدمتك وصون بيتك وعرضك وأولادك لم أكل يومًا أو أمل، وبالأخير أصبح أنا خائنة!

يصيبه نعل الحذاء بجراح بالغة، فيما تتابع الضرب:
-               ثلاثون سنة أدبر معيشتي لا أطالبك يومًا بشيء يفوق طاقتك أو أنقل إليك شكوى طفل أو هم، وبالأخير أنا خائنة!

تنفجر الدماء من وجهه، ولم يعد ممكنًا أن تتوقف بعدما أعماها الغضب، وأصابها بمس من الجنون:
-               ثلاثون سنة أنسى نفسي وأتفانى في رعايتك، أحاوط بيتي بيدي، وآخذ أولادي بحضني وبالأخير ليسوا أولادك!!!؟

أما عباس، فإلى هذا الحد كان قد أدرك مقدار خطئه، أراد أن يضمم زوجته الوفية، ويقبّل أولاده، أراد على الأقل أن يعتذر أو يحرّك شفاهه، لكن طاقته كانت تنفذ بأسرع من قدرته على التفكير، وفي مشهده النهائي، وكما قد عودته الأحداث الأخيرة، كان يتوقع في كل لحظة أن تتوقف زوجته عن شج رأسه بالحذاء ثم تستدير قائلة:
"هذه كانت تهويشة، وانتظر اللحظة الفاصلة."

غير أنها لم تقل، ولكنه وقبل أن يغمض جفنه إلى الأبد، استمع ـ من بين لهاثها المتصاعد ـ إلى عبارة جديدة:
-               لقد سبق تهويشك، وحانت اللحظة الفاصلة.

بل أنتِ أوفى زوجة، وهم أولادي، ونحن حقًا أسرة صغيرة عظيمة. وكما قد اعتدت أن أستشيرك في كل أموري سأستشيرك في أمر أخير: هل كنتُ مخطئًا حين ادخرت ورقة من المال بدلاً من أن أمنحها لملمع أحذية مسكين، لأنني وجدت أن أبًا لأولاد مثل أولادنا هو أحوج من ملمع الأحذية المسكين إلى ورقة من المال!؟
~

نحو سماء العاصمة المكفهرة، تتصاعد الصلوات والأدعية، فتشتبك مع اللعنات النازلة.

وفوق الأرض، يقف الزبون الملول أمام ملمع الأحذية الذي يتوقف عن العمل فجأة، يرجع برأسه إلى الوراء وينفجر بالضحك، فيتململ الزبون المتعجل:
-               ما الأمر؟
-               لا عليك يا بك، هذا زوج بني آخر، قد قام بعمله.

ثم يتابع جلو الحذاء.زوج بني

نحو سماء العاصمة المكفهرة، تتصاعد الصلوات والأدعية، فتشتبك مع اللعنات النازلة.

وعلى رأس شارع جانبي، يلقي ملمع الأحذية العجوز بفرشه وأدواته، تنتفخ أوداجه، يشير بإصبعه إلى الزبون الذي انسل هاربًا، ويقول بصوته الجهوري من بين شفتيه الغليظتين ولعابه المتناثر:
"زوج بني... زوج بني.... زوج بني...."

ثم يتصاعد أدائه تصاعدًا دراميًا:
"زوج بني.... زوج بني...... زوج بني."

حتى يسقط رأسه منكفئًا فوق صندوقه.
~

من بعيد، يخطو عباس يتعثر في طريقه لعمله، ينظر إلى ملمع الأحذية العجوز الملقى على قارعة الطريق منكفئ الوجه فوق الصندوق، هو ليس من طبعه أن يلمّع حذائه، ينظر إلى حذائه الذي يصعب تمييز لونه من تراكم ذرات التراب فوقه، ولكنه سيفعل من أجل مساعدة ذاك المسكين.

يرفع قدمه اليسرى فوق الصندوق ويربت بيده فوق كتف العجوز:
-               يا عمّ!

يرفع ذاك وجهه بوهن، ويمسح غمصًا عن عينه وزبدًا عن فمه، ثم يبدأ في التقاط أدواته.. يلمح عباس قدرًا من الطيبة في قسمات العجوز بينما ينفض ذرات التراب بفرشاة مخصوصة، يدير خرقة ذهابًا وإيابًا على أطراف الحذاء باحتراف، ويمعن في تلميع الحذاء بالورنيش مرة بعد مرة.. يضيّق عباس عينيه لتفادي الشمس المُسلَّطة، ويمسح حبات العرق عن جبينه بطرف كمه، فيما لا يزال العجوز مثابرًا على التلميع، ينظر إلى ساعته ثم يبدل قدمه اليمنى باليسرى قائلاً:
-               يكفي هذا، لتعمل على الأخرى.

يرفع العجوز وجهه إلى عباس فيما تتبدل قسماته الطيبة إلى سحنة شيطانية:
-               ما هذا يا أفندي! هل رأيتني أنهيت عملي؟ ألا تبدي الاحترام لرجل يؤدي عمله؟

يرتج عباس في مكانه إثر نظرة العجوز النارية، يجد أنه يبتلع كلماته إذ ينطقها:
-               ولكن .. ليس قلة احترام .. فقط .. سأتأخر على عملي..

يعاجله بنظرة آمرة، وبنبرة تتعالى:
-               وأنا أقول لك أعد قدمك اليسرى ولا تنزلها حتى يعود حذاؤك جديدًا.
-               حسنًا، حسنًا..

يجد نفسه منساقًا إلى أوامر العجوز في سلاسة يجهل سببها.. يجد أنه مشدوهًا إلى عالمه الخشن، يمكنه الآن أن يلحظ عروق كفه البارزة، يمكنه أن يحصي التجاعيد أسفل عينيه وأعلى جبينه، يمكنه أن يصغي لصوت تنفسه الثقيل بينما يعمل، كما يمكنه أن يتحاشى أية نظرة جديدة له.

وأخيرًا، يرجع العجوز بظهره للوراء، يضرب على صندوقه بظهر فرشاته، ويشير إلى ساقه الأخرى من دون أن يرفع نظره إليه.. ينزل عباس ساقه اليسرى، فيما يرفع الأخرى بتردد، فيقبض عليها العجوز، ويعكف على متابعة عمله.

يذهب عباس بخياله بعيدًا، يفكّر في أستاذ متولي الذي سيلحظ تأخره، يفكر في مدام ناريمان التي ستحاول أن تنقذه وتوّقع له في دفتر الحضور، ثم يعود بتفكيره إلى أستاذ متولي الذي سيبحث وراءه ويعلن أنه يغش في الدفتر، وبالنهاية يفكر في نصف اليوم المخصوم... وبالرغم من هذا كله، فإنه يتوق لأن يرى نظرة الغيرة على وجه أستاذ متولي حين يلمح لمعان حذائه، ستطفيء هذه النظرة ناره، وتشعره بالرضا.

وذلك حين صعدت ضحكة مجلجلة نحو عنان سماء العاصمة، ارتجف لها بدنه كله، ثم انحنى بعينه يبصر العجوز الذي بدت ضروسه المسوسة، من بين أسنانه النخرة، سأل في رهبة:
-               ماذا! ماذا هنالك!

انتهى العجوز من ضحكته، ثم سعل في سعادة وعاد يتابع عمله:
-               لا شيء ذو بال! إنه زوج بني آخر قد أدى مهمته.
-               زوج ماذا؟ ما معنى هذا!

لم يجب العجوز، واكتفى بأن منح حذاءه وجهًا آخر من الورنيش، ثم أبعد يديه وأعلن:
-               تمام يا أفندي! ها قد عاد حذاءك جديدًا

أنزل عباس قدمه إلى جانب الأخرى، ثم نظر في ابتهاج إلى زوج الأحذية البرّاق الذي أصبح له، والذي للمرة الأولى يتضح لونه: إنه أسود حالك برّاق إذا ما انعكس عليه الضوء.. إنه يشعر بالفخر أنه يرتديه، ولربما يشعر بالندم أن تأخر كل هذا الوقت في تلميعه، وعلى الفور أدخل يده في جيبه ومنح العجوز قطعة معدنية، وهمّ يغادر حين استوقفه نداء العجوز الهادئ:
-               يا أفندي!
-               نعم
-               ما هذا؟
-               جنيه
-               وهل هذا ما أستحقه؟

فكر عباس للحظة، لربما فكر في القيمة المستحقة، ولربما في هدوء العجوز الذي سينقلب عاصفة إذا ما أغضبه، وضع يده في جيبه بحثًا عن عملة أخرى، فتش جيوبه جيّدًا، فلم يجد إلاّ ورقة صحيحة.. تلعثم لحظة، ثم لجأ إلى تطييب خاطره:
-               اكتفي بالجنيه، واعذرني، لا أملك فكّة.

بادره العجوز بخشونة:
-               وهل أشحذ منك لتقول لي "لا أملك فكّة"؟

تلك الوقاحة التي أثارت غضب عباس، فهتف منفعلاً:
-               وهل تتوقع أن أمنحك ورقة صحيحة؟ لمـــاذا!!؟ هل اخترعت حذاءً جديدًا! هل أتيت بمعجزة من السماء! أنت بالكاد لمّعت الحذاء!

اتسعت عينا العجوز، وحدجه بنظرة صائبة فيما يضغط على مقاطع كلماته:
-               ألم أخبرك سابقًا | ألاّ تقلل | من شأن رجل | يؤدي عمله!؟

أصابت النظرة تماسك عباس، فحاول أن يلقي بها خلف ظهره ويتقدم، ومن خلف ظهره راحت تشيّعه لعنات العجوز الذي احمر وجهه وانتفخت أوداجه وراح يردد:
"زوج بني... زوج بني.... زوج بني...."

كان عباس يشعر بأنه لاعب سيرك فوق الحبل، يبذل جهده كي لا يقع ويضحك الناس عليه في أول عروضه، ثم يخصم له صاحب السيرك نصف يوم. ولازالت تطاله من خلف ظهره عبارة العجوز المبهمة:
"زوج بني.... زوج بني...... زوج بني."

وما جدوى الزوج البني! إنه نوع من الكماليات ليست لأمثاله، قد يليق بـ بك ربما يملك الكثير من البذلات البنية والبيج وما بينهما، والتي إن ارتدى عليها زوج أحذية أسود ستوّبخه زوجته وتخبره أنه لا يفهم في الذوق ولا يليق بها أن تظهر جواره في المجتمعات الراقية.

أمّا هو، فإنه لا يذكر أنه ارتدى في حياته زوجًا بنيّا، فضلاً عن بذلة تليق بالزوج البني!

وإلى جوار رأسه، تروّعه قذيفة مصوّبة غير أنها ـ لحسن الحظ ـ أخطأته، ينظر إلى فردة الحذاء البنية التي استقرت على الأرض أمامه، ثم يستدير ينظر خلفه في استفهام، فيطالع العجوز على البعد وقد نظر تجاهه وأعلى من صوته ـ المرتفع من دون حاجة:
-               هذه كانت تهويشة، وانتظر اللحظة الفاصلة.

لا يريد أن يصبح سخرية، استدار وأكمل طريقه. لاعب السيرك يتأرجح، كما أن الحبل ينقطع، ونصف اليوم المخصوم سيصبح يومًا كاملاً حين يستدير ويعود للبيت. أما الأكثر سوءً، فإنه لن يرى نظرة الغيرة بعين الأستاذ متولي من لمعان حذائه.
~

لا يريد أن يبدو كأضحوكة، توقف ونظر إلى حذائه، لاعب السيرك لا يمكنه أن يسير على الحبل بزوج من الأحذية حتى وإن كانت سوداء وللتو أصبحت لامعة، يلمح مئذنة على البعد عالية عالية، يدب الأمان في قلبه فجأة، يخف إلى المسجد في سرعة، يخلع نعليه على الباب، ويدلف خفيفًا إلى الداخل.

ينتبذ مكانًا قصيًا قد يظنه كثير من المصلين خلوة، يشرد في خواطره عن حاله فيما يظنه البعض تفكّر، وتسقط من عينه دمعة يظنها أحدهم خشوعًا.

يهز رأسه يمينًا ويسارًا وما عاد هناك من أحد لكي يظنه تصوّف، ينتبه للمرة الأولى إلى خلو المسجد بالكامل من المصلين، لا يدري كم مكث على هذا الحال، ولكن يبدو أنه أطال.

يشعر بأنه أصبح أفضل وقد هدأ روعه وتماسكت أعصابه، يحس بحنين إلى التواجد في كنف زوجته وبيته، يخف دون تلكع إلى الخارج، لم يكن يرغب حقًا في أي شيء يعطله عن تحقيق رغبته، ولكن: أين ذهب ذاك الحذاء؟

يتفقد الأرفف بيديه بالرغم من أنها أمام ناظريه خالية، لا يوجد أثر لحذاء أسود لامع.. هاهاها.. تتملكه روح الدعابة فيقهقه في حرمة المسجد: هل طمع أحدهم في حذائه في أول يوم يبدو فيه كحذاء عليه القيمة! لقد كان من الحكمة أن يتركه بترابه.

يتوقف الضحك فجأة، يلمح في الزاوية البعيدة لأدنى رف من الأرفف.. حذاء يشبه تمامًا حذائه، في هيئته ولمعانه وحتى مواضع ثنياته، فقط يختلف في تفصيلة صغيرة، فلونه هو اللون البني.

يرفع زوج الأحذية بإصبعيه إلى أعلى رأسه، وينظر من أسفلهما إلى المقاس المطبوع. يسقطهما إلى الأرض التي ترتعش فوقها أصابع قدميه في الجورب، يدير نظره حوله في حذر، ثم يدس قدميه في الحذاء ويخرج من المسجد.
~

خطواته الرتيبة يصبح لها إيقاعًا كإيقاع الساعة:
تيك تاك
تيك تاك
تيك تاك

خطوة بعد خطوة يتحول الإيقاع إلى نغمات ممطوطة:
تيييييك تااااااااك
تيييييك تااااااااك
تيييييك تااااااااك

يندهش عباس، يتوقف، ثم تعلو شفتيه الابتسامة إذ يدرك أن كل ما في الأمر أن لحذائه صليلاً، يعاود الخطو، فيعود صليل حذائه ممطوطًا، يسكن، فيسكن، فيتابع سيره مطمئنًا.

يتوقف من جديد، وقد علا وجهه الذعر إذ يفكر: ولكن صوت الصليل ـ الذي يعلو مع خطواته ويتوقف بوقوفه ـ لا يأتيه من أسفل قدميه، وإنما من خلفه.

يستدير في فزع، لا أحد بالخلف. يعاود السير، يعود الصليل. يسرع في السير، يتعالى الصليل. يقف فجأة، فينمحي كل الصوت.

"هذا المخبر.." يردد في نفسه: "بارع حقًا، إنه يختفي بأسرع من قدرتي على الالتفات. فقط، فقط، لو لم يكن لحذائه صليلاً!!"

ونحو الموقف، يكمل طريقه ركضًا، برغم ارتفاع ضجيج الحذاء.

وحين يصل، يسرع بالانغماس وسط العامة، ويلتقط أنفاسه، فتهوي يدًا ثقيلة على كتفه. يلوي عنقه إلى الخلف في سرعة، فيبادره رجل يفوقه في الجسم بسطة:
-               لماذا تهرب مني؟
-               وهل كنت تتبعني؟

يخطو الرجل الضخم خطوات قليلة ليقف في مواجهته، ولكنها كافية جدًا ليسمع صليل حذائه، ويقول:
-               بكل تأكيد.
-               وماذا تريد مني؟

يشير إلى قدميه ويقول:
-               أريد حذائي.

يشعر عباس بالحرارة ترتفع إلى رأسه، ربما غضبًا، ربما خوفًا، ربما حرجًا.. ينظر إلى الزوج البني بقدمه ويقول:
-               أنا... أنا.... أنا كنت في المسجد، ولم أجد...

يسكته الرجل بإشارة من يده:
-               لا أريد أن أستمع لتاريخ حياتك، اعطني الحذاء.
-               حسنًا، حسنًا...

ينحني عباس ويعكف على خلع الحذاء، وذلك حين يزوره الخاطر، فيرسل بصره ـ من زاوية نظره بالأسفل ـ إلى موضع قدمي الرجل الضخم اللتان تستقران داخل حذاء أسود لامع هو حذائه بالذات.

يعود ببصره إلى موضعه، يتابع خلع الحذاء كألم يرَ شيئًا، وقد اتخذ قراره أنه لن يطالب بشيء، ولن يسأل حتى عن شيء، وسيعود إلى منزله حافيًا، إذا تطلب الأمر.

يتجاهل الأعين المبحلقة من حوله، لقد اكتسب جمهورًا في هذا اليوم لم يكتسبه لاعب سيرك محترف في عمره، يضع زوج الأحذية البني أمام الرجل الضخم، ويتراجع خطوة للوراء.

يحدجه الرجل الضخم بنظرة قاسية حبست أنفاسه في صدره، وفي لفتة أذهلته، مال الرجل الضخم وخلع نعليه، ثم رفعهما أمام وجه عباس قائلاً:
-               هاك حذاءك، قد ارتديته بالخطأ.

التقط عباس الحذاء إلى صدره، وتنفس الصعداء من بين شفاهه المبتسمة، راح الرجل الضخم يرتدي الحذاء، فيما أصيب المشاهدين بخيبة أمل، وابتدأوا في التفرق.

ولكنه وقبل أن يغادر، التفت الرجل الضخم ومد يده إلى كتف عباس قائلاً:
-               هذه كانت تهويشة، وانتظر اللحظة الفاصلة.

يقولون أن المجهول مرعب، ولكن المألوف أحيانًا يرعب أكثر، ووقع هذه العبارة كان مألوفًا بأذن عباس الذي راح يرتجف:
-               ماذا؟

بدت الدهشة على وجه الرجل الذي وقف في بلاهة:
-               لا أدري ما قد قلت، ولكن شيئًا جبريًا أخبرني أن أخبرك.

ثم هز رأسه، وشق طريقه بخطوة واسعة.
~


صعد عباس الدَرَج ثم ارتكن إلى حوافه يلهث. أدار المفتاح في الباب فانفتح عن منزله الحبيب المقلوب رأسًا على عقب للتنظيف ولكنه قد رآه في هذه اللحظة بعينيه المغرورقتين: أروع مكان في الوجود. أطلق زفيرًا طويلاً ثم خطا إلى الداخل في حبور.

لم يمس حذاؤه اللامع الأرض وإنما تزحلق من فوقها في ماء المسح فارتطم بثقل جسده بالأرض حتى همد. وفي لحظة سقوطه، أُلقي نائمًا على ظهره، متألمًا من كل عضلة، ومحدثًا جلبة جذبت انتباه ابنته الكبرى التي حضرت على الفور بالممسحة في يدها،  وما إن رأت والدها فوق الأرض حتى شهقت شهيقًا عاليًا، ثم استغرقت في الضحك قائلة:
-               هذه كانت تهويشة، وانتظر اللحظة الفاصلة.

رفع رأسه على الفور وهتف ذاهلاً:
-               ما الذي تقولين؟

سكن ضحكها فجأة، علا الارتباك وجهها، مدت يدها إلى أبيها تقيمه قائلة:
-               لستُ أدري، ولستُ أعرف حتى معنى هذا!

وحضرت ابنته الصغرى ركضًا، فانحنت فوقه تفتش في جيبه عن حلواها المعتادة:
-               أين الشيكولاتة يا بابا! أين الشيكولاته يا بابا!

لكنها إلى هذا الحد كانت قد نالتها بالفعل، فانتزعتها وراحت تركض للداخل، تتبعها عبارة أبيها:
-               اقتسميها مع إخوتك.

ثم قام ينفض ملابسه المبتلة، وكأنما قد تجف، وتحدث لابنته الكبرى بصوت يخنقه تعكر المزاج:
-               أين أمك؟
-               إنها بالداخل.

وأشارت إلى غرفة النوم، فخطا تجاهها فيما يشير إليها بطرف إصبعه:
-               اعملي لي فنجانًا من القهوة.

وكأن شيئًا بالكون يمكنه أن يضبط مزاجه من جديد!
~

يفتح باب غرفة النوم فيجد زوجته في ثوب نومها المثني ذيله لينعقد على خاصرتها، وبيدها ممسحة، وإلى جانبها دلو. وبالرغم من هذا، هي التي تصيبها الدهشة لرؤيته:
-               أجئت يا عباس؟

عينه زائغة، ولبُّه شاردًا:
-               هاه!؟
-               أقول لك: أجئت يا عباس؟
-               نعم، نعم..

يكاد يخطو داخل الغرفة فتصدّه بذراعها الممدودة:
-               لا، هذه الغرفة قيد التنظيف
-               وأين أرتح إذًا؟
-               ولماذا جئت مبكرًا؟

ينفض يديه في وهن، ويستدير وكأنما بالحركة البطيئة ليمنحها ظهره ويغادر، تدور عينه الزائغة مع استدارته في الغرفة، تقع على بضعة أشياء ليس من المعتاد رؤيتها في غرفة النوم، ولكنه رآها في هذه المرة الاستثنائية: فرشاة بلاط، خرقة مبلولة، وبأسفل الستارة، كان هناك زوجًا من الأحذية من اللون البني.

يخطو في خطوات قصيرة، وثقيلة، وبطيئة وكأنما بقدمين مصمغتين إلى الأرض، يقع بصرها على آثار حذائه، ومن خلف ظهره، يأتيه صوتها موبخًّا:
-               أيعجبك هذا الطين؟ ألم أخبرك ألف مرة أن الأحذية كلها عند الباب؟

لا يعيرها اهتمامًا، ويتابع تقدمه المريع في بطئه، ترفع عينها عن الأرض فتقع على ظهره المبتل، مما يستلزم المزيد من اللوم:
-               وما هذا البلل في ملابسك! أطفل صغير أنت؟

ثم يعود قلبها إلى طيبته:
-               انتظر!

تغيب لحظة، ثم تعود حاملة بيجاما نظيفة، وتقول بحنان قبل أن تغلق الباب:
-               ارتدي هذه، وارتح في غرفة الأولاد، فقد انتهيت من تنظيفها.

يتلقاها في صدره، ويتابع التقدم من دون كلمة.

-               القهوة يا بابا.

يزيحها عن طريقه، ويتابع التقدم من دون وعي.
~

صورة واحدة معلّقة على جدار غرفة الأولاد، تتنقل من جدار لجدار بحسب ما تقع عليه عين عباس، وهي صورة الحذاء البني أسفل ستارة غرفة النوم.

استلقى على الفراش فانتقلت الصورة إلى السقف.

ابنه إلى جواره نائم، ولكنه راغب في اللعب، وذهنه يتفتق عن آلاف الألعاب الممكنة لو أن ابنه متيقظ، يمكنهما أن يجمعا قطع البازل، يمكنهما أن يحلا الكلمات المتقاطعة، ويمكنهما أن يضعا كلمات "حذاء"، "ستارة"، و"غرفة نوم" في جملة مفيدة.

هذه الجملة يمكن أن تكون:
"ثمة حذاءً بني يقبع بأسفل ستارة غرفة نوم رجل لم يملك يومًا حذاءً بنيًا"

أو، لنختصرها قليلاً:
"ثمة حذاءً لا يخصه يظهر ـ بالخطأ ـ من أسفل ستارة غرفة النوم"

أو، لنكن واضحين:
"هناك حذاء لرجل غريب في غرفة نومه والستارة تخفي صاحب الحذاء."

لماذا اندهشت زوجته حين رأته، وعنفته لرجوعه المبكر؟
لماذا منعته من دخول الغرفة، وأوصدتها خلفه؟
ماذا تفعل زوجته شبه العارية في غرفة نوم مع رجل غريب؟

انتفض كالثور وانطلق إلى غرفة النوم فكأنما قطع المسافة في خطوتين، فتح الباب بخبطة واحدة فانتفضت زوجته المنكّبة على الأرض:
-               ما هنالك!

يوجّه بصره نحو موضع الحذاء الذي قد كان شاهده لكنه لا يجده في موضعه:
-               أين هو؟
-               ما هو؟

يندفع نحو الستائر يزيحها في عشوائية ويتفقد ما خلفها:
-               أقول لكِ أين هو! أين هو!

تقول في لوعة:
-               فقط اهدأ واخبرني عمّ تبحث!
-               آه!

يطلقها في ظفر، تستقر عينه على فردة حذاء بنية معلّقة بحافة الشباك من خلف الستائر، يلتقطها ويرفعها أمام وجهها:
-               هل هرّبته! هاه! هل قفز من الشباك؟

تصعقها العبارة:
-               ماذا تقول! هل جننت؟

يهوي بكفه فوق خدّها بكل الغل فتسقط أرضًا:
-               أيتها الفاجرة!

يندفع أولاده من باب الغرفة في جزع:
-               بابا، بابا

يدفع بهم إلى الخارج صارخًا:
-               لا تقولوا "بابا"، وابحثوا عن أبيكم بعيدًا عني!

ويوصد من خلفهم الباب، ويستدير إليها في توعد، تتراجع في موضعها على الأرض فيما تنتحب وتردد:
-               لقد جننت، لقد جننت، لقد ذهب عقلك!

يرفعها من شعرها إلى الأعلى، فيما يلوّح بفردة الحذاء أمام وجهها:
-               أنا جننت؟ وما هذا أيتها العاقلة الوفيّة؟
-               هذا حذاؤك، حذاؤك.

يتوقف عن الاستيعاب لحظة، وبأذنه نداءات الأولاد من خلف الباب:
"بابا، بابا"

ثم يعود إلى عزمه:
-               أنتِ كاذبة، أنا لا أملك حذاءً بنيًا.
-               هذا حذاؤك، أقسم لك، لقد اشتريته لك منذ أعوام، هل نسيت؟ ولكنك لم تستخدمه وظل مركونًا
-               ولو كان حذائي فماذا يفعل هنا، أليست الأحذية كلها عند الباب؟
-               صادفته في عملية التنظيف، وأردته أن يكون قريبًا لأتذكره فأخرجه لشخص يستفيد منه ما دامت لا تستعمله
-               ولماذا أنكرتِ وجوده حين سألتك، وماذا كانت تفعل فردة واحدة منه على الشباك؟
-               لم أكن أعرف أنك تبحث عنه، وقد رفعته على الشباك لأتمكن من التنظيف أسفل منه، ويبدو أن إحدى الفردتين قد سقطت من الشباك

يهوي إلى المقعد فيما ينفي برأسه مرارًا:
-               هذا حذاء غالٍ ونعله متين!
-               وهل أشري لك هدية رخيصة؟
-               عظيم!

يهب ثائرًا فيدفع بزوجته فوق مقعد:
-               كلماتك معسولة، وردودك حاضرة، ولكن شيء واحد سيثبت صدق روايتك.
-               وما هو؟

يتناول فردة الحذاء، ويجلس فوق المقعد المواجه لها:
-               لو كان هذا حذائي، فسيناسب قدمي، وتكونين زوجة مخلصة..

يحاول أن يدفع بقدمه داخل الحذاء أكثر من مرة:
-               ولو لم يكن، فلا تسأليني عن مصير الزوجة الخائنة.

تهز برأسها وتقول بصوتها المختنق:
-               ولكن لو كان ناسبك يوم جاء، لما كان مركونًا حتى اليوم.

وإلى أذنه لازالت تتوالى نداءات الأولاد:
"بابا، بابا"

تنزلق قدمه إلى الخارج ولا يسعها الحذاء في أية مرة، يلقي بالحذاء، ويهب يقبض على عنقها:
-               أنا لستُ غبيًا أيتها العاهرة، فلا تزيدي من الكذب، واخبريني حذاء من هذا!

يشدد قبضته على عنقها فيما تحاول أن تدفع يديه أو تتنفس :
-               قولي حذاء من، ولا تفكري بأن تكذبي ثانيةً بعد ثلاثين سنة من الكذب هي طيلة عشرتي معك. ثلاثين سنة أفي لكِ وتخونين! ثلاثين سنة أتحمل الإذلال من أصحاب العمل والسكن والسادة، أصحاب الفخامة والسيادة والسعادة، الرؤساء المتسلطين والزملاء الواشين والباعة الجشعين، وكل من يخطر له أن يهينني حتى لم أعد أعتبر إهانتهم لي إهانة، ولربما جزء من متطلبات الوظيفة، وذلك من أجل ألا تنقصكِ حاجة أنتِ ولا الأولاد! كنت أعود فأقول إن لي بيتًا أنا ربُّه وزوجة تهتم لأمري وأولاد هم قرة عيني، وهم يحترمونني ولا يرونني ذليلاً..

تتعالى الطرقات على الباب مصحوبة بالنداء يقطّع قلبه:
"بابا، بابا"

يلتفت إلى الباب يصرخ:
-               قلتُ لكم: أنا لستُ أباكم، لستُ أباكم.

تتراخى قبضته قليلاً:
-               أنا لستُ أباكم الذي تحمل أن يكون أضحوكة لكل الناس في طريقه كي لا يسخر أحد في يوم منكم.
لستُ أباكم الذي حرم نفسه حتى من حذاء جديد، كي ترتدوا أنتم الملابس الجديدة كل عيد.
لستُ أباكم الذي قبل أن يكون لاعب سيرك يسقط ويندك عنقه وتبقم أنتم في مكان أمين.
أنا لستُ أباكم يا أولادي.

تتراخى قبضته تمامًا، وتتساقط الدموع من عينه:
-               لستُ أباكم، لستُ أباكم!

تهب زوجته تدفعه بكل طاقتها إلى بعيد، يسقط فتصطدم رأسه بعارض الخزانة، تدور رأسه ويتثاقل إلى الأرض، تسرع زوجته بتثبيته إلى الأرض، وبدافع عميق من الإحساس بالظلم، ترفع فردة الحذاء البنية وتهوي بها فوق رأسه:
-               لست أباهم أيها المريض النفسي؟
ليس حذاءك أيها المختل العقلي؟

ترفع الحذاء إلى أعلى وتكرر ضربه على وجهه مرات عديدة:
فتلقى حذاءك وانظر إليه جيدًا لربما توقن أنه حذاءك وأنني كنت أشرف زوجة طيلة ثلاثين سنة!
ثلاثون سنة من الأعمال الشاقة في خدمتك وصون بيتك وعرضك وأولادك لم أكل يومًا أو أمل، وبالأخير أصبح أنا خائنة!

يصيبه نعل الحذاء بجراح بالغة، فيما تتابع الضرب:
-               ثلاثون سنة أدبر معيشتي لا أطالبك يومًا بشيء يفوق طاقتك أو أنقل إليك شكوى طفل أو هم، وبالأخير أنا خائنة!

تنفجر الدماء من وجهه، ولم يعد ممكنًا أن تتوقف بعدما أعماها الغضب، وأصابها بمس من الجنون:
-               ثلاثون سنة أنسى نفسي وأتفانى في رعايتك، أحاوط بيتي بيدي، وآخذ أولادي بحضني وبالأخير ليسوا أولادك!!!؟

أما عباس، فإلى هذا الحد كان قد أدرك مقدار خطئه، أراد أن يضمم زوجته الوفية، ويقبّل أولاده، أراد على الأقل أن يعتذر أو يحرّك شفاهه، لكن طاقته كانت تنفذ بأسرع من قدرته على التفكير، وفي مشهده النهائي، وكما قد عودته الأحداث الأخيرة، كان يتوقع في كل لحظة أن تتوقف زوجته عن شج رأسه بالحذاء ثم تستدير قائلة:
"هذه كانت تهويشة، وانتظر اللحظة الفاصلة."

غير أنها لم تقل، ولكنه وقبل أن يغمض جفنه إلى الأبد، استمع ـ من بين لهاثها المتصاعد ـ إلى عبارة جديدة:
-               لقد سبق تهويشك، وحانت اللحظة الفاصلة.

بل أنتِ أوفى زوجة، وهم أولادي، ونحن حقًا أسرة صغيرة عظيمة. وكما قد اعتدت أن أستشيرك في كل أموري سأستشيرك في أمر أخير: هل كنتُ مخطئًا حين ادخرت ورقة من المال بدلاً من أن أمنحها لملمع أحذية مسكين، لأنني وجدت أن أبًا لأولاد مثل أولادنا هو أحوج من ملمع الأحذية المسكين إلى ورقة من المال!؟
~

نحو سماء العاصمة المكفهرة، تتصاعد الصلوات والأدعية، فتشتبك مع اللعنات النازلة.

وفوق الأرض، يقف الزبون الملول أمام ملمع الأحذية الذي يتوقف عن العمل فجأة، يرجع برأسه إلى الوراء وينفجر بالضحك، فيتململ الزبون المتعجل:
-               ما الأمر؟
-               لا عليك يا بك، هذا زوج بني آخر، قد قام بعمله.

ثم يتابع جلو الحذاء.

(تمت)



(تمت)



هناك 12 تعليقًا:

  1. غير معرف3/8/13 02:06

    أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  2. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  3. صحفي5/8/13 01:17

    خبر الموسم: مذيعات في التليفزيون المصري عضوات في شبكة دعارة والخبر يتم التعتيم عليه

    ردحذف
  4. غير معرف2/10/13 11:19

    علي الطلاق مفاهم حاجة

    ردحذف
  5. غريبة أوي القصة ديه

    ردحذف
  6. غير معرف28/12/13 20:20

    اسمحي لي ان اقول ذلك بالرغم من شدة إعجابي بأغلب قصصك إلا ان هذه القصه غير رائعة البته .. أين ذهب فنك الذي تظهريه في قصصك؟ هذه القصة غير مرعبة وغير مشوقة أبداً بل تصيب القارئ بالملل..هي فقط غامضة وغير مفهومة بنهايتها ..و ألاحظ ان اغلب قصصك تنتهي بهاية مفتوحة مجهولة.
    اتمنى ان تبذلي جهداً افضل من هذا لئلا تفقد قصصك حس روعتها

    ..استمري

    ردحذف
  7. غير معرف13/5/14 19:43

    رائعة ... رائعة ياسالي ... ماشاء الله تبارك الله !
    دائما ما تعجبني قصصك ورواياتك ... دائما دائما وأبدا !!
    صحيح انني فتاة بالخامسة عشرة ... وجميع من في سني الآن يتظاهرون بقراءة قصص على شاكلة روميو وجولييت و ألف ليلة وليلة .... مع أنني أكاد أقسم أنهم لم ولن يفهموا حرفا واحدا منها !!

    لكن كالعادة ... أقف جوارهم مبتسمة ومعي كتاب مختوم بما يرونه إسما مكتوبا بخط نسخ منمق أبيض ... بينما أراه انا يقطر دماً ... ("سالي عادل") !!

    ردحذف
  8. غير معرف27/5/14 20:18

    حلوة اوى

    ردحذف
  9. مجهول25/2/16 06:29

    القصة مكتوبة مرتين ولا انا بيتهيألى
    كنتى غيرى فى المرة التانية وخليه يديله الورقة لصحيحة وخلاص طيب

    ردحذف

إذًا، ماذا ترى؟
أسرِع، لا يمكنني الانتظار

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...